فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فوجب أن يقول: إن شاء الله ليصير هذا سببًا لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب.
روي أن أبا حنيفة رحمه الله، قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك.
قال اتباعًا لإبراهيم عليه السلام في قوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] فقال أبو حنيفة رحمه الله: هلا اقتديت به في قوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى} [البقرة: 260] وأقول: كان لقتادة أن يجيب، ويقول: إنه بعد أن قال: {بلى} قال: {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} فطلب مزيد الطمأنينة، وهذا يدل على أنه لابد من قول إن شاء الله.
الثاني: أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمنًا إلا إذا كان موصوفًا بالصفات الخمسة، وهي الخوف من الله، والإخلاص في دين الله، والتوكل على الله، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى.
وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر، وهو قوله: {إِنَّمَا المؤمنون الذين} هم كذا وكذا.
وذكر في آخر الآية قوله: {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقًّا} وهذا أيضًا يفيد الحصر، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس، لا جرم كان الأولى أن يقول: إن شاء الله.
روى أن الحسن سأله رجل وقال: أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ الثالث: أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمنًا، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمنًا يوجب القطع بكونه من أهل الجنة، وذلك لا سبيل إليه، فكذا هذا.
ونقل عن الثوري أنه قال: من زعم أنه مؤمن بالله حقًا، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف الآية.
والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن.
الرابع: أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمنًا في الحقيقة عند ما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر، فأما عند زوال هذا المعنى، فهو إنما يكون مؤمنًا بحسب حكم الله، أما في نفس الأمر فلا.
إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائدًا إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبدًا دائمًا من غير حصول ذهول وغفلة عنه، وهذا المعنى محتمل.
الخامس: أن أصحاب الموافاة يقولون: شرط كونه مؤمنًا في الحال حصول الموافاة على الإيمان، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت، ويكون مجهولًا، والموقوف على المجهول مجهول.
فلهذا السبب حسن أن يقال: أنا مؤمن إن شاء الله.
السادس: أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة، فإن الرجل وإن كان مؤمنًا في الحال، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة؛ كان وجوده كعدمه، ولم تحصل فائدة أصلًا، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى.
السابع: أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع، ألا ترى أنه تعالى قال: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ} [الفتح: 27] وهو تعالى منزه عن الشك والريب.
فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليمًا منه لعباده، هذا المعنى، فكذا هاهنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان.
الثامن: أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى: {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقًّا} وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك.
فالمؤمن يقول: إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني.
أما القائلون: أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه: الأول: أن المتحرك يجوز أن يقول: أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله، وكذا القول في القائم والقاعد، فكذا هاهنا وجب أن يكون المؤمن مؤمنًا، ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركًا في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركًا حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل، لا يقدح في كونه مؤمنًا في الحال.
الثاني: أنه تعالى قال: {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقًّا} فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقًا فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز.
والجواب عن الأول: أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمنًا، وبين وصفه بكونه متحركًا، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع، وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقًا، وذلك الشرط مشكوك فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط.
فهذا يقوي عين مذهبنا. والله أعلم.
الحكم الثاني من الأحكام التي أثبتها الله تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قوله تعالى: {لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ} والمعنى: لهم مراتب بعضها أعلى من بعض.
واعلم أن الصفات المذكورة قسمان: الثلاثة الأول: هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية، وهي الخوف والإخلاص والتوكل.
والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق.
ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب، وفي تنويره بالمعارف الإلهية.
ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد، فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب.
كانت المعارف أيضًا لها درجات ومراتب، وذلك هو المراد من قوله: {لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ} والثواب الحاصل في الجنة أيضًا مقدر بمقدار هذه الأحوال.
فثبت أن مراتب السعادات الروحانية قبل الموت وبعد الموت، ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة، فلهذا المعنى قال: {لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ}.
فإن قيل: أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها، فإنه يتألم قلبه، ويتنغص عيشه.
وذلك مخل بكون الثواب رزقًا كريمًا؟
والجواب: أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم.
الحكم الثالث والرابع أن قوله: {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة.
قال المتكلمون: أما كونه رزقًا كريمًا فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالأكرام والتعظيم، ومجموع ذلك هو حد الثواب.
وقال العارفون: المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله، ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة الله ومحبته.
قال الواحدي: قال أهل اللغة: الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه، والله تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم.
قال تعالى: {إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] وقال: {مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7 لقمان: 10] وقال: {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] وقال: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن.
وقال هشام بن عروة: يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش، وأقول يجب هاهنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية، وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة الله ومحبته والاستغراق في عبوديته.
فإن قال قائل: ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب، وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين، لأنه لابد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات.
قلنا: إنه تعالى بدأ بقوله: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته زَادَتْهُمْ إيمانا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين، إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين، تنبيهًا على أن أشرف الأحوال الباطنة، التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة، الصلاة والزكاة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقًّا}، يعني أهل هذه الصفة، هم المؤمنون الموحدون صدقًا وهم المصدِّقون.
{لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ}، يعني فضائل عند ربهم في الآخرة؛ ويقال: لهم منازل في الرفعة على قدر أعمالهم؛ {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} مغفرة لذنوبهم وثواب حسن في الجنة؛ ويقال: الفتوح والغنيمة.
قال ابن عباس: المؤمن مؤمن حقًا والكافر كافر حقًا في قوله: {هُمُ المؤمنون حَقًّا}. اهـ.

.قال الثعلبي:

{أولئك هُمُ المؤمنون حَقًّا} أي حقّوا حقًا يعني يقينًا صدقًا. وقال ابن عباس: يقول برأوا من الكفر. وقال مقاتل: حقًّا لا شك في إيمانهم كشك المنافقين.
وقال قتادة: استحقّوا الإيمان بحق فأحقّه الله لهم. وقال ابن عباس: مَنْ لم يكن منافقًا فهو مؤمن حقًّا.
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الرازي، قال: أخبرنا عليّ بن محمد بن عمير قال: إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا هشام بن عبيد الله قال: حدّثنا عبيد الله هشام بن حاتم عن عمرو بن درّ عن إبراهيم قال:
إذا قيل لأحدكم أمؤمن أنت حقًّا، فليقل: إنّي مؤمن حقًّا فإن كان صادقًا فإنّ الله لا يعذّب على الصدق ولكن يثيب عليه.
فإن كان كاذبًا فما فيه من الكفر أشد عليه من قوله له: إنّي مؤمن حقًّا. وقال ابن أبي نجيح: سأل رجل الحسن فقال: أمؤمن أنت؟
فقال: الإيمان إيمانان فإنّ كنتَ تسأل عن الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخر والجنّة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله تعالى: {عِندَ رَبِّهِمْ} فوالله ما أدري أمنهم أنا أم لا.
وقال علقمة: كنّا في سفر فلقينا قومًا فقلنا: من القوم؟ فقالوا: نحن المؤمنون حقًّا، فلم ندرِ ما نجيبهم حتّى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا فقال: فما رددتم عليهم؟ قلنا: لم نرد عليهم شيئًا.
قال: أفلا قلتم أَمِنْ أهل الجنّة أنتم؟ إن المؤمنين من أهل الجنّة.
وقال سفيان الثوري: مَنْ زعم أنّه مؤمن حقًّا أمن عند الله ثمّ وجد أنّه في الجنّة بعد إيمانه بنصف الآية دون النصف، ووقف بعضهم على قوله: {أولئك هُمُ المؤمنون}.
وقال: تم الكلام هاهنا.
ثمّ قال: حقًّا له درجات فجعل قوله حقًّا تأكيدًا لقوله: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} وقال مجاهد: أعمال رفيعة. وقال عطاء: يعني درجات الجنّة يرقونها بأعمالهم.
هشام بن عروة: يعني ما أعدّ لهم في الجنّة من لذيذ المأكل والمشارب وهني العيش. وقال ابن محيريز: لهم درجات سبعون درجة كلّ درجة لحافر الفرس الجواد المغير سبعين عامًا {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي حسن وعظيم وهو الجنّة. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {أولئك هم المؤمنين حقًا} يريد كل المؤمنين، و{حقًا} مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه، وهو المصدر غير المتنقل، والعامل فيه أحق ذلك حقًا، وقوله: {درجات} ظاهره، وهو قول الجمهور، أن المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجتها على قدر أعمالهم، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا، وقوله: {ورزق كريم} يريد به مآكل الجنة ومشاربها، و{كريم} صفة تقتضي رفع المذام كقولك ثوب كريم وحسب كريم. اهـ.